هذه دعوة للتحرر أقدمها إليك ، دعوة لادراك حقيقتك الأصلية والارتحال إلى ما وراء الظاهر والخروج من ضيق الذات للتماهي مع الوجود ومعانقة كل الذوات!! دعوة للتأمل في ذلك السكون الازلي الذي يشكل نهاية لرحلة بحثنا الدؤوب عن زمننا الضائع وفردوسنا المفقود!! ،ارتباطنا بحقيقة الموت يجعلنا متصلين بصورة أكثر عمقا مع الواقع ورحابة الحياة، ترصدنا له هو ترصد للحرية، معرفتنا به هي وعي يتجسد في كينونتنا.

،لن استغرب اذا دفعك موضوع المقال للتردد في قراءته
منذ بداية الوعي البشري وفكرة الموت ترعبنا، تصيغ أنظمتنا وسلوكياتنا فالموت أكبر المخاوف البشرية ويرجع خوف البشر منه لعدم قبولنا بفكرة الفناء ورغبتنا في استمرار البقاء ، ويعمق من مخاوفنا صعوبة إدراكه اعتمادا على أجهزتنا الحسية والعصبية، فالموت في وعينا البشري ليس مصدرا للخوف فقط بل للارتباك أيضا، ارتباك يحمل التعاسة لفراق الأحبة، ويحمل غموضا في موعد وكيفية الوصول، فنعمل على تشتيت انتباهنا عن هذه الفكرة لما تسببه لنا من الألم، لكنها تظل قابعة في قعر أذهاننا.

الموت يسمو على الادراكات المادية وقد يخدع البشر انفسهم بأنهم يملكون علما بكل شئ لكنهم يقفون امام الموت فيصيبهم الخرس والتخبط ، لذلك من الحماقة الاتكال على المادية
المتعاظمة والمعارف العلمية في مواجهة الخوف الموت دون اللجوء إلى منظومات إيمانية والتحصن بها ، فقد تدفع الناس حاجتهم لإنكار هذا الإدراك بحتمية الموت إلى الهروب والمراوغة والانشغال بالتفاهات وتبجيل الشباب واحاطة النفس بكل ما هو جديد ومتجدد وآخر الصيحات من كل شيء وكلما أو غلو في الإنكار كلما كانت الحياة أكثر ضيقا وأغلالا.

كلما ازداد عمق الإيمان بالآخرة في النفس كلما قلت خشية الموت، فالآخرة تشكل تعويضا نفسيا عميقا لمخاوف لا يمكنك نفضها تماما لكنك قد تسكن بتذكر تفاصيل تدعوك للحبور في بداية رحلتك للعبور.

ليكن اداركك للموت عميقا، فتحويل الموت إلى فكرة تجريدية في الذهن لن يحررك، نحن نمشي في حياة حالمة ذاهلة ونعيش في خيالات مستمرة ، لكن الحياة عابرة كأشعة الشمس وقطرات الندى سرعان ماتتبدد كالدخان واستقرارنا فيها محض أوهام لا تخشى وخزات الحزن التي تصيبك من هذا التصور فعادة ما تضيق عواطفنا بشكل مكثف حول احتياجنا وهمومنا لكنك تنفتح الآن على لوعة الحياة نفسها.

استشعر قصر الحياة فالوجود الإنساني زمني بامتياز، يشكل الموت نوعا من الموعد النهائي لكل الأحلام والطموحات ولكل الهموم الآلام، فلو عشنا مئة سنة ، فهي ليست سوى قطرة في بحر الزمن، قد تدفعك هذه الفكرة بأن النهاية الحتمية للحياة هي الموت إلى تكريس وقتك لملذات الحياة وملهياتها في اللحظة الحاضرة والانغماس حتى النخاع في الحياة المادية بعريها وصفاقتها ، لكنك بذلك لن تضلل الموت أو تدفعه عنك، بل ستشعر تدريجيا بانعدام الروح فيك وهيمنة الأنا الزائفة برغباتها عليك ويزداد شعورك بالمرارة والامتعاض لأنك لم تنجز شيئا ولم ترق حياتك لمستوى قدراتك الكامنة.

إذا كان الموت عتبة لا بد لنا من عبورها فالنتقبل ما نشعر به من الخوف والروع والرهبة، ونقبل تلك القشعريرة التي تعبر أجسادنا عند تذكره، فهو حقيقة أعظم من أن تلم بها عقولنا، لحظة التفكير في الموت لحظة اذعان واستسلام لفكرة تحررنا ولو للحظة من عجرفتنا ومن قبضة العادة والتفاهة، نستحضر بها ضآلتنا، ونزيل بها سفاهة الطباع ، نمحو الضغائن ،نبصر بعدها العالم بعيون مختلفة، وهي الترياق المثالي لهموم حياتنا اليومية التي تستنزفنا وتشعرنا بهذا الخواء الكبير!!